الروشن في الوجه.. عمارة تاريخية تحكي قصة التكيف مع الطبيعة

في قلب البلدة التاريخية القديمة بمحافظة الوجه، يبرز "الروشن" شامخًا كرمز للعمارة التقليدية، وشاهدًا على براعة الأجداد في ابتكار حلول معمارية فريدة.
هذه الحلول لم تكن مجرد لمسة جمالية، بل كانت أداة عملية للتكيف مع الظروف المناخية القاسية في المناطق الساحلية، حيث عملت على حماية المنازل من أشعة الشمس الحارقة وتوفير الراحة لساكنيها. يجسد الروشن بذلك إرثًا ثقافيًا ومعماريًا عظيمًا.
تقنية هندسية وتراث فني
ووفقًا لوكالة الأنباء السعودية "واس"، تعمل "الرواشين" بطريقتها الفنية على تخفيف درجات الحرارة داخل المنازل خلال فصل الصيف بفضل تصميمها الفريد الذي يسمح بمرور الهواء الخارجي وتكييفه. وتُعرف الرواشين بأنها نوافذ أو شرفات بارزة، تُصنع من أجود ألواح الخشب، وتستخدم لتغطية النوافذ والفتحات الخارجية. وتُزين هذه الألواح بنقوش هندسية معقدة تعرف بـ"فن الأرابيسك"، ما يضفي عليها جمالًا ورونقًا خاصًا.
وفي أوقات اشتداد حرارة الصيف، تتحول الرواشين إلى ملاذ حقيقي للسكان، حيث تعمل كحاجز خشبي يمنع تسلل أشعة الشمس المباشرة إلى الغرف. وفي الوقت نفسه، تسمح هذه الفتحات الصغيرة بدخول النسمات الباردة القادمة من البحر الأحمر، ما يلطف الأجواء الداخلية. وكان سكان تلك الحقبة يجلسون خلف هذه الرواشين للاستمتاع بالهواء العليل ومراقبة الحياة في الخارج دون المساس بخصوصيتهم.
قيمة تاريخية وعمرانية عريقة
تكتسب البلدة القديمة في محافظة الوجه، بمبانيها الأثرية ومينائها وأسوارها وقلاعها، قيمة تاريخية عظيمة وإرثًا عمرانيًا فريدًا. وتمثل هذه المباني شاهدًا على نمط وفنون البناء القديم ومهارات ابن المكان في أعمال العمارة، ما يجعلها وجهة ثقافية وتاريخية مهمة.
كما أثرى الموقع الجغرافي للبلدة، الواقعة شمال ساحل البحر الأحمر، تاريخها العريق. فقد عُرفت قديمًا بميناء الحجر "مدائن صالح"، وورد ذكر اسمها في العديد من المصادر التاريخية الموثوقة. وذكرها اليعقوبي في كتابه "البلدان" والعذري في كتابه "نظام المرجان ومسالك البلدان"، ما يؤكد على أهميتها التاريخية.
مركز للحضارات ونقطة تبادل ثقافي
ولم تكن البلدة مجرد موقع أثري، بل كانت كذلك معبرًا حيويًا لنقل وتبادل الثقافات والتجارة بين دول غرب وشرق البحر الأحمر. فموقعها الاستراتيجي جعلها نقطة التقاء للحضارات، ما أسهم في ثراء تراثها الثقافي.
كما كانت البلدة ممرًا لقوافل الحجاج القادمين من شمال أفريقيا وبلاد الشام، مما أضاف إلى أهميتها الدينية والتاريخية. ويُعد هذا الدور الحيوي في الماضي جزءًا لا يتجزأ من هويتها العريقة، التي لا تزال آثارها شاهدة حتى اليوم.
فن معماري يواجه المستقبل
يُظهر الروشن براعة الأجداد في الجمع بين الجمال والوظيفة، فهو ليس مجرد عنصر معماري، بل هو رمز للحكمة والذكاء في التعامل مع البيئة. إن هذه التقنية القديمة يمكن أن تلهم المعماريين المعاصرين في سعيهم نحو بناء مستدام وصديق للبيئة.
وفي ظل التوجهات الحديثة نحو الحفاظ على البيئة، يُعد فن الروشن نموذجًا يحتذى به في كيفية تحقيق الراحة الحرارية دون الاعتماد على التقنيات الحديثة المستهلكة للطاقة. وهذا ما يمنحه قيمة إضافية في عالم اليوم.
الوجه القديمة.. كنز ينتظر الاستكشاف
تُعد البلدة القديمة في الوجه كنزًا أثريًا وثقافيًا ينتظر الاستكشاف، حيث تقدم لزوارها فرصة للغوص في أعماق التاريخ والتعرف على نمط حياة الأجداد. وتعمل الجهات المعنية على حماية هذا الإرث وتوثيقه، لضمان بقائه للأجيال القادمة.
ومع تنامي الاهتمام بالسياحة الثقافية، يمكن أن تصبح الوجه القديمة وجهة سياحية بارزة، تستقطب الزوار من داخل المملكة وخارجها. وهذا يسهم في إحياء التراث المحلي وتعزيز الهوية الوطنية، في إطار تحقيق مستهدفات الرؤية الوطنية 2030.